فضاء حر

أنصار الله والفضاء العام

يمنات
لطالماً كانت الأجهزة الأمنية من قبل 21 سبتمبر، تُصادر الخَمر وتَمنعه، كما تفعل اليوم اللجان الشَعبية، مع الاختلاف أن الأجهزة الأمنية كأفراد تتواطأ مع من يحملون أو يخزنون الخَمر بأن يقتسموا الكمية ويَقبضوا مبلغاً من المال لقاء تغاضيهم ،بينما اللجان الشَعبية بعقيدة دينية لا يتساهلون معه قطعاً! إن القضية هُناء ليست قَضية الكَحول كَمشروب، ولا نص قانوني يُجرمه “على المواطن المُسلم” فمصنع (صيرة للمشروبات – عدن) ظل يُنتج ويُورد للخزينة العامة حتى عام 94، قبل أن يُفكك بعد الحَرب، وتنشئ إثره مَجموعة من المُهربين يُعوضون السوق اليمني ما كان يُنتج وطنياً، لأن مُتعاطوه لم يتوقفوا، ولا يوجد ما يُجبرهم على ذلك.
القضية هُناء ليست قضية الكحول، بل أكبر من ذلك إنها قضية الفضاء العام (الحُريات العامة والخاصة)؛ فالسُلطة التي كانت تمنع الخَمر كانت بذات الوقت تمنع (الصرخة) “بالموت لأمريكا”، وتَمنع وجود التنوع مَذهبي في مضامين الكتاب المَدرسي والتَشريع القانوني، وتقمع كل الحقوق العامة والخاصة من اعتقالات الكُتاب إلى نفي السياسيين، إلى التَسَتُر على النهابة والمُجرمين. إن الثورة التي خرجت لأجل الحُرية والخُبز الكريم في 11فبراير: خرجت لنقض كل مُمارسات السُلطة ومجموعة القيم القمعية الفاسدة والاقصائية التي سيطرت عبرها، كان أنصار الله مِمَّن ثاروا ضد هذه السُلطة مع مُختلف قطاعات، وكانوا في طليعة من نَسفوا الأساسات السياسية والاجتماعية والعَسكرية لهذه السُلطة، حتى سيطرتهم العسكرية على صنعاء، وحتى هَذهِ اللحظة تعامل معهم قطاع واسع من الشَعب كحركة ثورية، ولم يتجاهلوا كون هذه الحَركة لها أيدلوجية دينية، وكون هذهِ الميليشيات تتبع مكون سياسي مُحدد وليس كل قطاعات الشعب، كان التعاطي معهم في هذا الجانب المادي الثوري، وبعد استتباب السَيطرة العسكرية للجان الشَعبية: ظَهرت هذه التناقضات الخاصة بين الحَركة والشارع مُذ شَرعوا لفَرض الخاص على العام، أي لفَرض شَريعته مسيرتهم القُرآنية(كحركة / تيار ثقافي) على المواطنين من مُختلف مشاربهم الفكرية والأيدلوجية، وهذا الأمر بالغ الخطورة إذ أنه يَنسف الحَق العام والحُرية كثابت ثوري وحق إجتماعي.
أنصار الله يَعتبرون نضالهم امتدادا لثورة فبراير، وهم بالطبع كذلك، إلى أن يتفارقوا بممارسات لجانهم الشَعبية مع قيمة (الحُرية) فتنتقل الحركة من موقع الثائر إلى موقع المتَسَيُد. تسيد الخاص على العام مَرفوض، وجرت مراجعات فكرية عديدة، الشمولية الاشتراكية مرفوضة، والأفغنة الاخوانية مرفوضة، والدولة الداعشية مَرفوضة، وبالتالي فدولة المَسيرة القرآنية مرفوض أيضاً. تسيد الخاص يُعيد مُمارسات السُلطة السابقة، التي رفضها الشَعب قطعاً فالشعب لم يَرفض شخوص ( صالح، ومحسن، وحميد، والزنداني، والسفير الامبريالي) بل رفض ممارسات هيمنتهم الطبقية .. جاءت مضامين مخرجات الحوار الوطني رافعه لهذهِ الحقوق؛ ومكون أنصار الله في مؤتمر الحوار كان أكثر (حَداثية) مِن بقية المكونات في تصويته لهذه الحريات العامة والخاصة وحقوق المرأة بل أنه طَرح ما هو أكثر من ذلك مُتجاوزاً اليسار حين قال : “الإسلام دين الشَعب”، و: “الدولة كيان إعتباري دينه القانون ” . فهل كان الشهيد د. أحمد شرف الدين الذي طرح هذه الرؤية يعبر عن نَفسه، وهل كان الكاتب (صلاح الدكاك)- عضو “فريق الحقوق والحُريات” عن أنصار الله يُمثل نفسه وهوَ يُصوت لهذه الحقوق، بالتأكيد كانوا يُعبرون عن مُكون أنصار الله، وهَذه الحقوق التي أصبحت من ضمن مُخرجات الحوار، لا يُمكن لطرف التَنصل مِنها فهي سَتُصبح جزءاً جوهرياً من العقد الاجتماعي الجديد: أي (الدستور) الذي يُصاغ حالياً، والذي من ضِمن ما يُنظمه الحقوق والحُريات العامة والخاصة، ويضبط المسافة بين مُعتقد الشخص وأيدلوجية الحركة والحزب، وبين حُريات المواطن، المُكتسبة من كونه (مواطن) حر ذو شخصية اعتبارية مُستقلة، وليسَ مواطن – قومي، إشتراكي، إسلاموي -، وبالتألي فالمسافة بين كونك مُسلم وكونك مُواطن هو الدستور لأنه حافظ الفضاء العام، ولأنه لا يُعبر عن هويات خاصة بل عن العَام ،وهَذا ما يجب أن يعيه أنصار الله جيداً أنهم في تعاملاتهم اليومية أنما يتعاملون مع مواطنين لهم حقوق المواطنة وليسَ مع مُسلمين تَجب عليهم الشَريعة القرآنية الممزوجة بالأعراف القَبلية. وإن كانت الجَعفرية(اللإثنعشرية) الأكثر تزمت بشأن الحُريات العامة والخاصة تَسمح بها اليوم في ايران وجنوب لبنان، والزيدية الهادوية الأكثر إنفتاحاً منهم بهذا الشأن فكيف تَمنَعه؟
الصدام بين انصار الله والمَدَنيين يعني عدم الاستقرار وبالتالي إعاقة أي تَقدم سياسي مع التفاهمات الجديدة، وهذا الأمر تستغله السُلطة لتحرف موقع الصراع من الاقتصادي /السياسي، إلى حقل الحريات، وهذا يعني تقويض وضع أولى أساسات الدولة الوطنية الديمقراطية التي هي الوحيدة القادرة على أن تَحل هذه المسألة في كفالة الحقوق المَدنية/ العَلمانية، وفي توزيع التنمية لتشمل كُل الأطراف المُهملة تاريخياً، وبالتالي يُصبح التَمَدن انتقال مجتمعي يُغير في هذه البُنى الاجتماعية القَبلية والريفية، وليس فقط حق دستوري يَكفله الدستور لشريحة من المُجتمع ولو كانت قليلة.
عن: الأولى

زر الذهاب إلى الأعلى